فن

“شخصيات وحقائق” معاناة في حياة القديرة سامية جمال

 

صفاء مصطفى

كنا فقراء.. فقراء إلى أقصى حد.. نعيش في بيت متواضع في حي كثير التواضع .. غذاونا في أكثر أيامنا العيش والملح ومع ذلك فقد عز علينا في كثير من الأيام.

 

والآن أقدم لكم أسرتي

فى انين وحزن ،كان رب هذه الأسرة أبي.. وقد كان على فقره من النوع الذى يحب أن تكون الكلمة في البيت له وحده.. وقبل أن يتزوج أمي كانت له زوجة أخرى رُزق منها أولادا.. فلما زف إلى أمي بادر بطلاق زوجته الأولى ولفظها من البيت إلى الطريق فقد كانت وحيدة لا تعرف لها مأوى غير هذا البيت..

ورق لها قلب أمي فسألت أبي أن يبقى على زوجته الأولى.. وبعد رفض وثورة منها وافق.. وهكذا بقيت مطلقة أبي معنا كواحدة منا ..
تشاركنا الكفاف راضية مرضية .. تنعم من أمي بصدر حنون وتحرص أمي في كل مناسبة على إشعارها بإنها هى ـ مطلقة أبي ـ ربة هذا البيت..

كان الفقر طعامنا والبؤس شرابنا ولكننا الفناهما ولم نضق بهما.. لا لطول معاشرتهما فحسب.. بل لأن أمي لم تكن تعرف الشكوى ولا التبرم بشئ .. كانت تستقبل كل قضاء يكتبه الله علينا بابتسامة راضية وتعوضنا عن الحرمان بالحنان وعن اللقمة بالرحمة..

كانت كريمة على فقرها إلي حد أنني أتصور أنها كانت تتمنى أن تجمع الهواء الذى تستنشقه وتهبه لنا جميعا..

وهكذا مرت الأيام ونحن في ظل هذا الحنان الدافق لا نشعر بأننا محرمون من نعمة ينعم بها غيرنا.. إلى أن تجهم لنا الدهر ذات يوم.. إذ مرضت أمي ولزمت فراشها وراحت صحتها تسوء يوما بعد يوم دون أن نجد أجر الطبيب.. ولو وجدناه لما وجدنا ثمن الدواء..

وسرت رعشة في أوصالها ولكن عينيها الكبيرتين لم تكفا عن التطلع إلى وهما غارقتان في بحيرة من الدموع دون أن تقول شئ.. وأخيرا استجمعت قواها لتجذبني إلى صدرها .. وأمسكت برأسي بين يديها وقالت “لا يا سيدة.. مش هسيبك”.. وسيدة هو الاسم الذى كانت تؤثره لى أمي وتناديني به.. فقد كان اسمي في شهادة الميلاد زينب..
كان قلبي يستشعر شيئا في الغيب فصحت “أوعي تسيبني يا ماما.. أوعي” ..

واشتدت عليها وطأة المرض ونقلوها إلى المستشفي وذات يوم أصبحت مقبوضة الصدر .. وشعرت في البيت بحركة وهمسات غريبة.. ولم أفهم شيئا مما حولي ولكني أحسست بنذير السوء.. وعندما هم أهل البيت بالذهاب إلى المستشفي تبعتهم بغير دعوة حتى وصلنا إلى هناك.. وهناك التقى أبي رجل ضخم سأله عن اسم أمي فنظر إليه الرجل نظرة طويلة صامتة ليس فيها معنى من معاني الحياة وقال “راحت”..

تبعت هذا الرجل الضخم إلى غرفة كبيرة بها عدد من الاسرة كالموائد مغاطة بملاءات بيضاء تحتها أجساد أدمية تنبعث منها رائحة غريبة… وفى منتصف الغرفة وجدت أمي نائمة على إحدى الموائد.. فأقبلت عليها في فرحة مجنونة لأقنعها بإن تعود.. وأن لا تهرب مني بعد الآن.. وصحت بها أناديها وهى لا تصحو ولا تجيب .. وكانت الملاءة التى تغطيها غارقة في الدماء.. فرفعتها فإذا بي أرى أحشاء أمي بارزة من جسدها فصرخت صرخة مدوية..

وهرع الجميع إلي.. وأمسكوا بي وحملوني إلى الخارج حيث وجدت مطلقة أبي في انتظاري لتهوى بيدها الثقيلة على وجههي في صفعة قوية وقاسية ..

كانت هذه أول صفعة في حياتي .. وأول لقاء بيني وبين أمي القادمة..

قال لي من كانوا يحيطون بأمي وهى تلفظ أنفاسها الأخيرة إن اسمي هو آخر اسم تردد على شفتيها..

ومشهدان لا أنساهما ما حييت.. مشهد أحشائها وهى بارزة من جسدها.. ومشهد الصفعة التى هوت بها زوجة أبي على وجهي حين رأت جزعي على أمي .. كانت هذه الصفعة أول سطر أسود في حياتي قرأت منه بقية الكتاب .. لقد فهمت عندئذ لماذا كانت أمي تتشبث بي إذ هى على فراش المرض.. إنها كانت تتوقع لي هذا المصير..

بعد أن أودعنا العزيزة أمي مقرها الأخير .. بدأت حياتي الجديدة مع مطلقة أبي التى ردها إلى عصمته.. وباتت حياتي مليئة بالغيوم التى اختفت من طياتها جميع معاني الحب والحنان.. لقد أصبحت زوجة أبي سيدة البيت الأمرة الناهية .. كانت سيدة تجمع نفسها المعقدة حدة المزاج.. فكانت تتصيد أوهى الأسباب لتمزق جسدي ضربا .. وكانت إذا لم تجد سببا تضربني من أجله ضربتي لغير سبب..

وكنت كلما اشتد بي سوط عذابها أتطلع إلى السماء وأحس بالطمأنينة لأنني كنت أتوقع أن نهاية هذه الآلام لن تأتي على يد أحد من أهل الأرض..
كان إخوتي يذهبون إلى المدرسة أما أنا فقد حُرمت هذه النعمة.. وكُتب علي أن أكون خادمة لأبي وزوجته وأولادهما .. أجهد جسدي الصغير من مطلع الشمس إلى مغربها في أعمال البيت ..

وكنت أنظر إلى إخوتي هؤلاء وإلى أبناء الجيران وهم ذاهبون إلى المدرسة كل صباح في حسرة..

وذات يوم أبديت رغبتي في الذهاب إلى المدرسة .. فصاحت زوجة أبي في استنكار “انتي تروحي المدرسة؟”.. ومضت تضربني من جديد ..

وكنت في بعض الأحيان أتسلل إلى كتب إخوتي.. فآخذ منها كتابا وأنتحي جانبا بعيدا وأقلب صفحاته في لهفة وشغف.. أحاول أن أفسر هذه الألغاز والرموز من غير طائل.. فتهتز نفسي حسرة وأقول “ليتني أستطيع أن أقرأ”..

وفجأتني زوجة أبي أكثر من مرة متلبسة بهذه الجريمة.. فكان جزائي فى كل مرة مضاعفة العذاب.. لقد كانت تعدني مجرمة لأنني أريد أن أتعلم ..

ولم يكن لى في هذا البيت إلا صديق واحد .. فأر صغير.. كان جحره فى غرفتي وعلى مقربة من فراشي..

كنت أراه وهو يتسلل إلى ثيابهم فيثقبها وطعامهم فيقضمه فأحس بكثير من الراحة .. وأشعر بصداقته وكأنما ينتقم لى منهم فيما يأكلون وفيما يلبسون..
كانوا يكثرون من مطاردته ويحاولون ضربه بنعالهم والقضاء عليه بأيديهم تماما كما يفعلون معي.. فأحس أن هذا الفأر شريك حياتي وأن مصير كل منا مرتبط بمصير الاخر ..

ولعله هو أحس بنفس الشعور فكان يمر بي إذ هو فى طريقه من جحره إلى جحره مطمئنا.. لا يخشانى ولا أخشاه .. بل لعله كان يرانى حين أفتح النافذه وأرنو بعينى إلى السماء التي نعيش أنا وهو تحتها فى كهف من العذ”اب والحرمان والألم..

كان في غرفتي مرآة كبيرة كثيرة الثغرات والندوب.. ولكنها كانت مرآة على أي حال .. وتشهد هذه المرآة التى طالما رآت دموعي أنني عندما سمعت الموسيقى من راديو الجيران لأول مرة اهتز قلبي هزة عنيفة واهتز معها كياني منطلقا مع الأنغام.. لقد رحت منذ الليلة الأولى أتلوى مع هذه الأنغام التواءات يسميها العامة بالرقص وأسميها أنا “التواءات الألم والحرمان حينما يمتزجان بالتواءات السعادة والنشوة”..

فجأة انقطع صوت الموسيقى وعرفت أن الجيران سافروا ولن يعودوا قبل شهرين.. ومرت علي الليالي قاسية جامدة..

وذات يوم احتشدت حولى أسباب اليأس من الحياة.. إذ كانت قسوة زوجة أبي قد زادت على كل حد.. وتفنن أهل البيت جميعا في سوء معاملتي.. فاندفعت إلى البكاء بسيل من الدموع لا ينقطع .. وبينما أنا غارقة في الدموع قفز إلى رأسي سؤال صبياني مضحك.. حيث روحت اسأل نفسي: من أين تجئ عيناي بكل هذه الدموع وأنا لا أشرب كثيرا؟ إنها أكثر مما أشرب فى أسبوع كامل.

 

لكن فجأة عاد صوت الموسيقى.. وهذه المرة كان من المقهى المجاور لنا.. وعنذئذ شعرت بالطمأنينة وأدركت أني لن أُحرم من الموسيقى بعد اليوم..

الفنانة القديرة سامية جمال
رحمه الله عليها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى