منوعات

طارق حمدية يكتب: غزةُ تكشفُ السُقوطَ الأخلاقي

طارق حمدية يكتب: غزةُ تكشفُ السُقوطَ الأخلاقي

 

 

تخيَّلْ مَعي، في هذا الزمنِ المَقلوبِ رأسًا على عَقِب، أنَّ العُرَاةَ على مَسارِحِ اللهوِ والغِناءِ في أوروبا، ممَّن لا يَرفعونَ للهِ رايةً، ولا يعرفونَ قِبلةً لبيتٍ حرام، قد سَبَقوا المُصلّينَ في المسجدِ الأقصى، والمسجدِ النبوي، والبيتِ الحرام، في أخلاقِهم، وإنسانيّتِهم، ونُخوتِهم، وشجاعتِهم، وضميرِهم الحَيّ!

 

تَخيَّلْ أنَّ مَن نشأُوا في بيئةٍ تُقدِّسُ الحريةَ الفرديةَ والانفتاح، قد أصبحوا اليومَ في طليعةِ مَن يَصرخونَ في وجهِ الظلمِ، ويقفونَ بجرأةٍ معَ القضايا العادلة، ويُحاكمونَ الطُّغاةَ بألسنتهم، ويُحاصرونَ السفاراتِ بجُموعِهم، بينما يلوذُ كثيرٌ من أهلِ القِبلةِ بالصَّمتِ المُهين، ويَلوونَ أعناقَ النصوصِ ليُبرّروا عجزَهم، أو يَصُوغوا خيانةَ الموقفِ بثوبِ الحكمةِ المزعومة.

 

أيُّ سُقوطٍ أدهى من الذي كشَفَتْهُ غزّة؟!

 

غزّة، التي تُبادُ على مرأى ومسمعِ العالم، تحتَ وطأةِ آلةِ الحربِ الصهيونيةِ، التي لا تَرحمُ طفلًا، ولا تُجِلُّ شيخًا، ولا تَستثني امرأةً، في مشهدٍ لم تَشهدهُ البشريةُ منذ نكباتِ القرنِ الماضي.

 

أُسِرَ الناسُ في شُبّاكِ الحصارِ والجوع، وتحوَّلَ الخبزُ إلى أُمنيةٍ، والماءُ إلى كنزٍ مفقود، والدواءُ إلى معجزةٍ تنتظرُ السماء.

 

فالمجتمعُ الدوليُّ صامتٌ صمتَ القبور، والدولُ الشقيقةُ تُجيدُ فنَّ التغاضي، وتُتقنُ بياناتِ “القلقِ العميق”، بينما المذابحُ تتكرَّر، والمجازرُ تُبثُّ على الهواءِ مباشرة، والأمعاءُ الخاويةُ تُعلنُ عصيانَها.

 

هذه ليست حربًا، بل إبادةٌ ممنهجةٌ، تُدارُ بحساباتٍ دقيقة، يَجمعُ فيها جيشُ الاحتلالِ بين الحصارِ العسكريِّ، والتجويعِ الاقتصاديِّ، والتدميرِ الشاملِ للبُنى التحتيةِ، بما فيها المخابزُ، والمستشفياتُ، ومراكزُ الإغاثة.

 

المساعداتُ لا تُلقى حيثُ يُحتاجُ إليها، بل تُسقَطُ حيثُ تُهدَّدُ الحياةُ أكثر. وكأنَّ الهدفَ هو مضاعفةُ المعاناة، وجعلُ الجوعِ فخًّا للقتلِ الجماعيّ. بعضُ الإمداداتِ تُسقَطُ على رؤوسِ العائلاتِ في العراء، دونَ إنذارٍ، لتصبحَ كالمصيدةِ لا المنقذ. وكأنَّ كلَّ ما يحدثُ يُدارُ بعقلٍ إجراميٍّ يحسبُ عددَ الأحياءِ المتبقّين، لا لإنقاذِهم، بل لترتيبِ موعدِ دفنِهم.

 

أما الساسةُ في دولِ الجوار والدول الشقيقة، فهم بين متواطئٍ بالصمت، ومُبرّرٍ بالخوفِ، ومُنكفئٍ على ذاته، وكأنَّ الدمَ الفلسطينيَّ لا يبلّلُ خرائطَهم.

 

فأيُّ هَوانٍ أعظمُ مِن أن تتحوَّلَ القلوبُ إلى صُخورٍ، والأرواحُ إلى رمادٍ، والسكوتُ إلى خيانةٍ باردة؟!

 

ما أوجعَ أن يغيبَ الضميرُ حيث يُفترَضُ أن يُولَد، وأن يحضُرَ حيث لا يُنتظر، وما أضيقَ العُذرَ حينَ يكونُ الحقُّ ناصعًا، والباطلُ جليًّا، والسُّكوتُ عنه جريمةٌ لا تُغتَفَر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى