منوعات

ماذا لو التقينا مع من رحلوا؟

 

بقلم الكاتب والمستشار / علاء أبوالــــــــــــــــحجاج. 

 

تساؤل يعصف بأغوار الروح كلما مرت ذكرى عزيز قد غاب، أو هبت ريح تحمل شذى من نحبهم وهم في عالم البرزخ قد استقروا. 

إنه سؤال يختصر كل لوعة الفراق، وكل مرارة الغياب: 

“ماذا لو التقينا مع من رحلوا؟” 

إنه ليس مجرد استفهام عابر، بل هو أمنية مؤرقة، وحلم يتشكل في سراديب الذاكرة، يتردد صداه بين شغاف القلب وعقل ينطق باليقين.

لقد فُتنت البشرية بهذا السؤال منذ فجر التاريخ، فصاغت عنه الأساطير، ونسجت الحكايات، فهو يجسد الصراع الأزلي بين رغبة القلب في الخلود، وواقع الحياة الذي يقر بالفناء.

هذا اللقاء المتخيل ليس مجرد لقاء بالجسد، بل هو لقاء بالماضي، بالذكريات التي لم تكتمل، بالكلمات التي ظلت حبيسة الحلق، وبالأسرار التي لم تبح بعد.

إنه فرصة نتوهمها لكي نصلح ما أفسده الزمان، لكي نعيد ترتيب المشاهد، ونسعى لتطييب الجروح. ولكن، هل سيكون هذا اللقاء كما نتخيله؟ هل سيعيد لنا الراحة والسكينة، أم أنه سيزيد من ألمنا ويزيد من لوعة الفراق التي لا تنتهي؟

هنا، ينشأ الصراع الحقيقي الذي يمزق النفس بين الأمل واليأس، بين الرغبة والخوف، بين الحنين إلى ما كان وخشية ما قد يكون.

لو كان لنا أن نلتقي بهم، لشددنا الرحال إليهم في طرفة عين، ولتخطينا حدود الزمان والمكان. سنبحث عنهم في شوارع أحلامنا، وفي زوايا بيوتنا القديمة، وفي كل مكان كنا فيه معهم. 

ما أجمل هذا اللقاء في خيالنا! إنه لقاء صافٍ، بلا عتاب، بلا حساب، لقاء يمحو كل الذنوب الصغيرة التي ارتكبناها في حقهم دون قصد. 

سنخبرهم أننا ما زلنا نحبهم، وأن وجودهم في حياتنا كان شرفا لا يقدر بثمن، وأن غيابهم ترك فراغا لا يملأه شيء.

سنخبر الآباء والأمهات أننا كنا مقصرين، وأن حنانهم كان الملاذ الآمن الذي افتقدناه.

سنهمس في آذان الأصدقاء بأسرار لم نجرؤ على البوح بها، وبأن ذكرياتنا معهم هي وقود الحياة الذي يعيننا على المضي قدما. 

أما الأحبة الذين فرقهم الموت، فسنروي لهم قصة الحب التي لم تنتهي بعد، وسنخبرهم أن قلوبنا لا تزال تنبض باسمهم، وأن كل قصائد الشعر التي تُكتب هي محض حروف لقصصنا التي لم تكتمل.

في هذا اللقاء المتخيل، سنلقي بثقل الأعباء على صدورهم، ونشكو لهم قسوة الحياة، ونطلب منهم النصيحة التي طالما كانت تنير دروبنا.

هذا الحلم باللقاء هو معين لا ينضب من الأمل، فهو يبقي على خيط رفيع بيننا وبين من رحلوا، ويجعلنا نؤمن بأن الحب أقوى من الموت، وأن الروح لا تموت بفناء الجسد.

ويبقى الصراع الداخلي بين، القلب العاشق والعقل الواقعي

ولكن، ما أن يبدأ هذا الحلم بالتبلور، حتى يعصف الصراع الداخلي ليبعثر شتات الأمل. 

إنه الصراع الأبدي بين القلب الذي يشتهي العودة إلى الماضي، والعقل الذي يفرض عليه منطق الحاضر.

القلب يحمل كل شجن الذكريات، ويخفق بكل لوعة الفراق. 

يرفض فكرة الموت والغياب، ويسائل نفسه:

“لماذا رحلوا؟ ولماذا لم أودعهم كما يجب؟”. 

هو الذي يبقي على الأمل في لقاء قادم، ولو كان في عالم آخر.

  يعيش في حالة إنكار للواقع، يحيي أشباحهم في كل ركن، ويعيد سماع أصواتهم في كل هدوء. إنه يؤمن أن الحب الصادق لا يمكن أن ينتهي بالموت، وأن الأرواح المتآلفة لا بد أن تلتقي.

أما العقل، فهو الحكم الذي يبطل كل هذه الأوهام.

هو الذي يذكرنا بأن الموت حق، وأن لكل أجل كتابا، وأن الحياة ماضية لا محالة.

العقل يدفعنا إلى قبول الواقع، إلى المضي قدما، وإلى عدم التوقف في محطة الماضي.

هو الذي يحذرنا من أن الغرق في حلم اللقاء سيعيقنا عن عيش الحاضر، وسيفقدنا القدرة على رؤية النعم التي ما زالت بين أيدينا.

إنه يرى في هذا التعلق الماضي نوعا من الخطر على استقرار النفس وسلامها.

وهذا الصراع ليس معركة تنتهي بمنتصر وخاسر، بل هو حالة من التجاذب المستمر. 

القلب يبكي ويئن، والعقل يواسي ويهدئ.

القلب يريد أن يعيد الزمن، والعقل يذكره بأن الزمن لا يعود أبدا. 

هذا الصراع هو جوهر تجربة الفقد، وهو ما يضفي عليها كل هذا التعقيد والألم والجمال في آن واحد.

إن هذا الحلم باللقاء يحمل في طياته سيفا ذا حدين، فماذا لو أن هذا اللقاء لم يكن كما تصورناه؟ ماذا لو أن من رحلوا قد تغيروا، وأن الزمن لم يتركهم كما كانوا في ذاكرتنا؟ ماذا لو أن العتاب الذي حاولنا تجاهله قد طفا على السطح، فجعل من اللقاء مرارة لا تطاق؟

ربما نكتشف في هذا اللقاء أن العلاقة التي كانت بيننا لم تكن مثالية كما تذكرها قلوبنا المرهقة. 

قد نفاجأ بأنهم لم يعودوا بحاجة إلى عتابنا أو حبنا، وأنهم قد وجدوا السلام الذي كنا نبحث عنه. 

هذا الخوف من أن تكون حقيقة اللقاء مخيبة للآمال هو جزء من الصراع الذي يمزق النفس، فهو يجعلنا نفضل أن تبقى صورتهم في ذاكرتنا نقية، غير مشوهة بواقع مر.

هذا التساؤل يدفعنا إلى أن نعيد النظر في علاقتنا بمن نحبهم وهم أحياء. فهو يعلمنا أن نقدر اللحظات قبل فواتها، وأن نعبر عن مشاعرنا قبل أن يحل الغياب، وأن نصلح أخطاءنا قبل أن يصبح الاعتذار مجرد ذكرى تؤلم.

إن الحل لهذا الصراع لا يكمن في إقامة هذا اللقاء المتخيل، بل في إعادة تعريف مفهوم اللقاء نفسه. إن اللقاء الحقيقي لا يكون بالجسد، بل يكون بالروح والذكرى.

إن أفضل طريقة للقاء من رحلوا هي أن نبقيهم أحياء في قلوبنا وأفعالنا. 

أن نعيش الحياة التي كانوا يتمنونها لنا، وأن نحقق الأحلام التي كانوا يتمنونها معنا.

أن نصبح امتدادا لهم في هذا الوجود.

فكلما فعلنا خيرا باسمهم، وكلما ذكرناهم في صلاة ودعاء، وكلما قصصنا حكاياتهم لأطفالنا، فإننا نلتقي بهم من جديد.

السلام يأتي عندما يتصالح القلب والعقل.

القلب يظل يحمل الحب والحنين والذكريات، والعقل يتقبل أن الموت نهاية طبيعية وبداية لرحلة أخرى.

هذا التصالح يحررنا من قيود الماضي، ويجعل من ذكرى من رحلوا مصدر قوة وإلهام، لا مصدر حزن وألم.

في نهاية المطاف، سؤال “ماذا لو التقينا مع من رحلوا؟” ليس عن لقاء ممكن، بل هو عن شوق لا يبرأ، وحب لا يموت.

إنه دعوة للتأمل في قيمة اللحظة، وفي معاني الوجود والفناء. 

إن من نحبهم لا يرحلون أبدا طالما ظلوا في ذاكرتنا وضميرنا. 

إنهم يعيشون فينا، في كل ابتسامة، في كل دمعة، في كل حلم، وفي كل خطوة نخطوها.

إن اللقاء الحقيقي معهم هو كل لحظة نحس فيها بوجودهم حولنا، وكل ذكرى تعيد لنا دفء أصواتهم.

إنهم ليسوا غائبين، بل هم في سبات عميق في قلوبنا، ينتظرون أن نحييهم بالدعاء والوفاء، ليكون لقاؤنا معهم أبد الدهر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى